فى هدوء تسللت إلى شباك غرفتى المطل على شرفة منزلها ... فاليوم هو الثلاثاء, وكعادتها لن تتخلف عن موعدها فى الثامنة صباحاَ ....لازلت أترقبها وأنتظر مجيئها من وراء الستار حتى لا ترانى... لم أدر ما السر فى تتبعى لها منذ الصغر ..أكان هذا من باب الشفقة على إمرأة عجوز تسكن بمفردها منذ سنوات أم إنه الخيال الذى فرضه على عالم الحواديت والقصص فدفعنى لتصفح حياة الآخرين وإلتقاط بؤرة المشهد القصصى وتحويل اللحظة المعيشية للآفراد المحطين بى إلى مشهد قصصى متماسك......
الحاجة أم عبد اللطيف سيدة تجاوزت السبعين عاماَ تعيش بمفردها منذ أكثر من عشرين عاماَ بعد زواج أبنائها وسفرهم للخارج لا تختلط كثيراَ بالجيران المحيطين بها.....وطوال تلك السنوات لم أرى لها رفيقاَ غيره...صباح كل ثلاثاء تسقيه وتهذبه كــ الأم التى تحنو على صغيرها رغم أن كل من حولها لا يرونه إلا مجرد صبار يتدلى من شرفة بيتها..!!
ولطالما أثارت تلك السيدة العجوز فضولى لمعرفة سر حرصها على الأعتناء بالصبار وهو نبات نادراَ ما تجد شخص يحرص على أقتنائه وخصوصاً فى منزله ,فليس له أى منظر جمالى يدفعك لرؤيته وليس من نباتات الزينة التى يقتنيها أغلبنا فى منازلنا..... نبات صحراوى جاف لا يحتاج للماء بوفرة, ربما عقد خيالى العزم على معرفة السبب ...وأستطاع أن يقنعنى ويرضى فضولى بأن العلاقة بين هذا الصبار والسيدة العجوز هى علاقة ترادفية فكلاهما يمثل للآخر نفس المعنى....
فعذابنا يزداد عندما تحاصرنا الوجوه العابثة حتى وإن أطلت فى صورة صبار جاف لا يعطى أى بهجة للحياة ....
ما أعرفة عن الحاجة أم عبد اللطيف أو بالأصح ما يتناقله الجيران عنها إنها عاشت حياة هانئة مع زوجها وأولادها كانت بمثابة أم مثالية لهم ..,وكان الجميع من الجيران يتحدثون عن نظافة بيتها الجدران التى تتحدى وجود أى بشر فى المنزل وتنكر تسرب أى أتربة إليه ...رحل الزوج وسافر الآبناء ولم يتبقى لها سوى هذا الصبار ظل وحده يؤنس وحدتها طيلة عشرون عاماً.... مازلت أنا فى شباك الغرفة أترقب مجيئها حتى أطلت بجسدها النحيل تحمل فى يدها الماء.... روت الصبار ونظرت من الشرفة تحملق فى وجوه الماره لعلها تصادف إبتسامة فى وجه أو قلب أى بشر لا يهم تعرفه أو يعرفها....فتمسك بفرحة غابت عنها لسنوات...... تلفتت بإستماتة يميناَ وشمالاَ لم يمر أحد, مازالنا فى الصباح الباكر .....
مر أسبوع ولم تأتٍ الحاجة أم عبد اللطيف لتروى صبارها... ,أسبوع أخر مر
ظننت فى بادئ الآمر إنها قد تكون مريضة أو أنشغلت بقدوم إحدى أبنائها من السفر أنتظرت لثلاثاء أخر أرى فيه السيدة العجوز وصبارها يتحاوران من جديد ترويه فيلهمها من صبره تحمل فراق الآحبة لكنها لم تأتٍ, أشفقت على الصبار...
فى المساء فؤجئت بالجيران يسارعون إلى شقة الحاجة أم عبد اللطيف يحطمون بابها فلم يعد يقوى قاطنى العمارة التى تسكن بها تحمل الرائحة المنبعثة من شقتها....
فى هدوء رحلت السيدة العجوز وتركت وراءها الصبار وحيداً, لم يمت لكنه ظل ينتظر وينتظر مجيئ من يرويه ويعيد إليه الحياة أما أنا وخيالى القصصى ويوم الثلاثاء وشباك الغرفة لم نعد نمثل أى دور فى تلك الحكاية........